الفصل السابع
عشر
في معتزلنا الهادئ في جبال الأردنيز كنا نراقب الأمور . كانت تصلنا الكثير
من الصحف , وفي كل يوم كان بوارو يتلقى ظرفا ضخما , واضح أنه يحتوي على
تقرير من نوع ما .
لم يكن يريني هذه البيانات لكنني كنت أفهم من رجهه إذا كانت مرضية أو لا ,
إنه لم يتزحزح عن عقيدته أن خطتنا هي التي سوف تنجح قال لي في أحد الأيام :
- لقد كنت في خوف دائم من أن موتك يقف على عتبة بابي , و هذا جعلني غضبان ,
لكنني الآن راض تماما , ولو أنهم عرفوا أن كابتن هيستنغز الذي نزل في
الأرجنتين هو رجل غيره فإنهم يظنون أنك تطوقهم بطريقة ذكية من عندك , و لن
يجتهدوا في معرفة مكانك , هم مؤمنون بحقيقة واحدة . . أنني قد مت , سوف
يستمرون في العمل و ينضجون خططهم
- و بعد ذلك ؟
- بعد ذلك يكون بعث هيركيول بوارو , سأعود و أظهر في اللحظة الأخيرة و أحقق
النصر العظيم !
لقد عرفت أن غرور بوارو , و هو درع من فولاذ , يصمد في كل الهجمات و أن
حماسه لا يفتر
- أنت ترى يا هيستنغز أنها كالحيلة الصغيرة التي تلعبها بالورق : تأخذ
الشباب الأربعة , تقسمهم , و تقطع الورق و تخلطه , و هنا يعودون جميعا إلى
بعض مرة أخرى . هذا هو هدفي : كنت أناضل مرة ضد واحد من الأربعة الكبار , و
مرة ضد واحد آخر , , لكن دعني أجمعهم الآن جميعا مثل الشباب الأربعة , ثم
بعد ذلك أدمرهم بانقلاب واحد
- و كيف تنوي جمعهم معا ؟
- بانتظار اللحظة الأشد خطورة , سنبقى بعيدين حتى يصبحوا جاهزين لأداء
ضربتهم
- هذا يعني انتظارا طويلا !
- أنت دائما متعجل يا هيستنغز الطيب . . لا , لن يطول ذلك كثيرا , فالرجل
الوحيد الذي كانوا يخافونه قد ابتعد عن طريقهم , شهران أو ثلاثة أشهر ليس
أكثر
ذكرني كلامه بإنغليز و ميتته المأساة , ثم تذكرت أنني لم أخبر بوارو عن
الرجل الصيني الذي كان يحتضر في مستشفى سانت غليز , أنصت إلى قصتي بانتباه
شديد :
- خادم إنغليز ؟ و الكلمات التي نطقها كانت إيطالية ؟ هذا عجيب !
- هذا هو سبب شكوكي أنها ربما تكون مكيدة من الأربعة الكبار
- أخطأت يا هيستنغز , أعمل خلاياك الرمادية . . إذا أراد عدوك خدعتك فإنهم
حتما سيجعلون ذاك الصيني ينطق بالإنكليزية نطقا ركيكا , لقد كانت الرسالة
محكمة , أعد علي ما سمعته مرة أخرى . .
- قبل كل شيء ردد الكلمتين : (( هاندلز لارغو )) ثم قال : (( كاروزا ))
معناها حافلة , أليس كذلك ؟
- و ماذا بعد ؟
- ثم قال (( كارا )) : اسم رجل ما أو اسم امرأة , و قال بعدها : (( زيا ))
..
- إن (( كارازيا )) هامة جدا يا هيستنغز
- لم أفهم . .
- يا صديقي العزيز , الإنكليز لا يعرفون الجغرافيا
- الجغرافيا ؟
- أقول بأن السيد توماس كوك ربما يكون هو الهدف مرة أخرى
و رفض بوارو أن يقول أي كلمة أخرى . كانت حيلة تبعث على السخط , لكنني
لاحظت أنه صار فكاهيا مرحا كأنما سجل نقطة
و سارت الأيام مملة , كان في الدارة أعداد كبيرة من الكتب لكني كنت أضيق
أحيانا بالخمول في حياتنا , و عجبت من هدوء بوارو , حتى كانت نهاية شهر
حزيران الحد الأقصى الذي ضربه بوارو لهم حين وصلنا خبر عن الأربعة الكبار .
.
وصلت سيارة إلى البيت في وقت باكر من الصباح , و كان ذلك حدثا غير عادي
فنزلت مسرعا لكي أشبع فضولي , و جدت بوارو يكلم شابا في مثل عمري ذا وجه
مرح , و قدمني إليه :
- هذا هو كابتن هارفي يا هيستنغز , و احد من أعظم رجال استخباراتكم شهرة !
قال هارفي وهو يضحك :
- أخشى أنني لست مشهورا بتاتا !
- لست مشهورا إلا بين هؤلاء الذين يعرفونك , معظم أصدقاء الكابتن هارفي
يحسبونه رجلا قد نذر نفسه للحيل
ضحكنا نحن الاثنين , و قال بوارو :
- هيا إلى العمل , إذن فأنت ترى أن الوقت قد حان ؟
- حتما يا سيدي , لقد عزلت الصين أمس سياسيا , ماذا يجري ؟ لا أحد يعلم
شيئا , كتمان طويل و صمت !
- قد كشف لي شانغ ين خططه . . ماذا عن الآخرين ؟
- آبي ريلاند وصل إنكلترا قبل أسبوع و طار إلى أوروبا أمس
- و مدام أوليفير ؟
- غادرت باريس الليلة الماضية
- إلى إيطاليا ؟
- إلى إيطاليا يا سيدي , كلاهما ذهب – حسب معلوماتنا – إلى المنتجع الذي
أشرت إليه . لكن كيف عرفت أن . . ؟
- ذاك من عمل هيستنغز
نظر إلي هارفي بتقدير , و شعرت بعدم الارتياح . . قال بوارو :
- إذن فكل شيء يمشي بنظام – و صار وجهه شاحبا و جادا – لقد حان الوقت , هل
تمت كل الإعدادات ؟
- كل شيء أمرت بتفيذه قد تم , إن حكومات إيطاليا و فرنسا و إنكلترا تقف
وراءك !
قال بوارو باسترخاء :
- ذلك حلف جديد , إنني مسرور لأن ديسجارديو اقتنع أخيرا , جيد , إذن سوف
نبدأ , أو – على الأصح – سوف أبدأ . أنت يا هيستنغز تبقى هنا , نعم , أرجوك
حقا يا صديقي إنني لجاد
صدقته , لكني لم أرض أن أبقى هناك!
كان جدالا قصيرا و حاسما ثم كنا في القطار إلى باريس :
- إن لك دورا يا هيستنغز ؛ قد أفشل من دونك , لكني شعرت أن من واجبي أن ألح
عليك بالبقاءء
- إذن ففي الأمر خطر ؟
- حيث يكون الأربعة الكبار يا صديقي يكون الخطر
وصلنا باريس , و ركبنا سيارة إلى جير دي ليست , ثم أعلن بوارو عن وجهته ,
كنا متجهين إلى بولزانوا الإيطالية
و حين خرج هارفي من مقصورتنا سألت بوارو لماذا قال بأن كشف موعد اللقاء كان
من عملي فقال :
- لأن إنغليز استطاع أن يعلم شيئا و يرسله إلينا مع خادمه , فكيف عرف ما
عرف ؟ إننا متجهون يا صديقي إلى (( كاريرسي )) الاسم الإيطالي الجديد
للاوجودي كاريزا , هل فهمت الآن من أين جاءت كلمة (( كارازيا )) و (( لارجو
)) ؟ أما كلمة (( هاندلز )) فمن خيالك
- كاريرسي ؟ لم أسمع بها من قبل
- ألم أقل لك إن الإنكليز لا يعرفون الجغرافيا ؟ هي منتجع معروف , منتجع
صيفي جميل جدا على ارتفاع أربعة آلاف قدم في دوموليت
- هناك يكون لقاء الأربعة الكبار ؟
- ذاك مقر قيادتهم , هناك يعتزلون العالم و يصدرون أوامرهم , لقد تحققت من
هذا الأمر , هناك عدد من المنشآت الصخرية يجري تنفيذها , و لعل الشركة التي
تنفذها شركة إيطالية صغيرة يسيطر عليها آبي ريلاند . أقسم أن بيتا تحت
الأرض قد تم حفره في قلب الجبل , بيت مخبوء يصعب الوصول إليه ! من هناك
يصدرون أوامرهم بجهاز لاسلكي لأتباعهم الذين ينتشرون بالآلاف في كل بلد , و
من ذاك الوكر سيخرج حكام العالم المستبدون الجدد . . أعني , كانوا سيخرجون
لو لم يكن هيركيول بوارو موجودا !
- حقا تقول يا بوارو ؟ و ماذا عن الجيوش و آلات الحضارة ؟
- إن الخطر في تجارب مدام أوليفير , لقد نجحت في تحرير الطاق الذرية و
تسخرها لخدمة أغراضها , كانت تجاربها بالنتروجين مشهورة جدا , و قد جربت
أيضا تركيز الطاقة اللاسلكية لتركيز إشارة لاسلكية ذات ذبذبة عالية على
بقعة ما , و حققت تقدما أبعد بكثير مما زعمته ! و لا تنس ثروة ريلاند و عقل
لي شانغ ين : أعظم عقل إجرامي في التاريخ !
كلماته جعلتني أفكر , أحيانا يبالغ بوارو في لغته , لكني عرفت لأول مرة أي
صراع يائس كنا فيه !
و في الحال عاد هارفي و انضم إلينا وواصلنا الرحلة . وصلنا إلى ساحة
بولزانو ظهرا , ثم ركبنا سيارة من السيارات الزرقاء الموجودة في ساحة
البلدة . و رغم حر النهار كان بوارو ملفعا بمعطف كبير ووشاح حتى عينيه و
شحمتي أذنيه , ربما من الحذر أو هو خوف زائد من البرد
و تمت الرحلة في ساعتين . كانت رائعة , اخترقنا النحدرات الصخرية الضخمة و
كان الشلال قريبا منا , ثم دخلنا واديا خصبا بضعة أميال ثم صعدنا إلى أعلى
بطريق معوج , و في أسفل الطريق حواف صخرية تظهر في آخرها غابات الصنوبر
الكثيفة ... ما أجمل ذاك المكان !
و أخيرا دخلنا منعطفا خفيا و الطريق تجري من بين غابات الصنوبر , و وصلنا
فندقا ضخما . .
كانت غرفنا محجوزة و صعدنا إليها بأمر هارفي فورا غرف تطل على القمم
الصخرية و المنحدرات الطويلة من غابات الصنوبر , أومأ بوارو بيده إليها و
سأل هارفي همسا :
- هل هو هناك ؟
- أجل , مكان يدعى (( فلسن لابايرنث )) , الصخور فيه مشكلة بصورة رائعة , و
فيه طريق تخترقها , المحجر عن يمين الطريق , ربما يكون المدخل في فلسن لا
بايرينث
هز بوارو رأسه , قال لي :
- تعال يا هيستنغز نجلس على المصطبة و نستمتع بضوء الشمس
- و هل تظن ذلك أمرا حكيما ؟
هز كتفيه استهجانا الحق أن ضوء الشمس كان لطيفا , و شربنا القهوة بالقشدة ,
ثم صعدنا إلى الطابق العلوي ووضعنا متعانا في الخزائن , و كان بوارو ساهما
يفكر , هز رأسه مرتين و تنهد . .
و أثار اهتمامي رجل نزل من قطارنا في بولزانوا و استقبل بسيارة خاصة , كان
رجلا ضئيل الحجم , و كان ملفعا بثيابه مثل بوارو , و كان يلبس – زيادة على
المعطف و الوشاح – نظارة داكنة , و كنت مؤمنا أن لدينا جاسوسا للأربعة
الكبار لكن بوارو لم يوافقني , ثم عندما أخرجت رأسي من شباك غرفة النوم
لمحته يتمشى قريبا من الفندق
أصررت على بوارو ألا ينزل للعشاء , لكنه أبى , دخلنا غرفة الطعام متأخرين و
أشير إلينا بالجلوس عند طاولة قريبا من الشباك
و بينما نحن جلوس شدتنا صيحة صوت تحطم صحن سقط , كان في الصحن فاصوليا
خضراء أمام رجل عند الطاولة القريبة منا . و جاء مدير الصالة يعتذر
و عندما كان النادل الذي أسقط الصحن يقدم لنا الحساء كلمه بوارو قائلا :
- هذا حادث سيء , لكنها لم تكن غطلتك
- هل رأى السيد ذلك ؟ لم تكن غلطتي , الرجل وثب من كرسيه . .
رأيت عين بوارو تشع بالضوء الأخضر الذي كنت أعرفه جيدا , و عندما غادر
النادل همس في أذني :
- هل ترى يا هيستنغز ؟ هيركيول بوارو و تأثيره حيا و ميتا !
- هل تظن .. ؟
لم أستطع أن أكمل , أحسست بيد بوارو على ركبتي بينما كان يهمس مندهشا :
- انظر يا هيستنغز انظر : عادته في الخبز . . رقم ((4)) !
حقا , صاحبنا الذي على الطاولة المجاورة وجهه شاحب , كان يفتت الخبز بطريقة
آلية . . تمعنت فيه بحذر , وجهه حليق و منتفخ و شاحب شحوبا مصطنعا , و تحت
عينيه تجاعيد كبيرة , و من أنفه خطوط عميقة حتى شفتيه , عمره بين الخامسة و
الثلاثين و الأربعين , لم يكن يشبه أحدا ممن تشبه بهم رقم ((4)) من قبل , و
لولا عادته في الخبز لأقسمت أني لم أره من قبل قط . . همست :
- لقد عرفك , ما كان يجب أن تنزل . .
- يا صديقي هيستنغز الرائع , إنما كنت ميتا ثلاثة أشهر من أجل هذا
- لكي ترهب رقم ((4))
- لكي أرهبه لحظة يلزمه العمل فيها بسرعة , و هو لا يعرف أننا عرفناه , يظن
أنه آمن في تنكره الجديد . كم أدعو لفلوسي مونرو لأنها حدثتنا عن عادته
النافعة هذه !
- ماذا سيحدث الآن ؟
- ماذا يمكن أن يحدث ؟ لقد بعث الرجل الذي يخشاه من موته بمعجزة في اليوم
الذي نضجت فيه خطط الأربعة الكبار , مدام أوليفير و آبي ريلاند أكلا
غذاءهما هنا اليوم , و أظنهما ذهبا إلى كورتينا , ماذا نعرف عنهم ؟ هذا
سؤال رقم (( 4 )) لنفسه .. إنه لا يجرؤ على المجازفة . .
نهض الرجل عن الطاولة المجاورة و خرج , و قال بوارو بهدوء :
- ذهب لإعداد خطة صغيرة , ألا نشرب قهوتنا في الحديقة ؟ سوف أصعد لآخد
معطفا
و خرجت إلى ال0حديقة و أنا مضطرب قليلا ,كلام بوارو لم يقنعني , فرأيت أن
أظل على حذر كبير
بعد خمس دقائق رجع بوارو , و كان متلفعا حتى أذنيه : تلك هي احتياطاته
المعتادة ضد البرد . قعد جنبي و رشف قهوته بإعجاب , قال :
- في إنكلترا تكون القهوة رديئة , أما أهل بقية أوروبا فيعرفون كم هو مهم
إتقان تحضيرها !
ثم ظهر صاحبنا في الحديقة فجأة , و بغير تردد أقبل علينا و سحب كرسيا إلى
طاولتنا :
- هل تسمحان أن أجلس معكما ؟
- قال بوارو : طبعا تفضل
و شعرت بالربكة , صحيح أننا كنا في حديقة الفندق و الناس حولنا لكنني لم
أكن راضيا بل أوجست خطرا
في غضون ذلك تحدث رقم (( 4)) بطريقة طبيعية , توحي أنه ليس إلا سائحا بلا
شك , لقد وصف النزهات و رحلات السيارة و ذكر أنه اتخذ موقفا في مكان مجاور !
أخرج غليونا من جيبه وجعل يشعله , وأخرج بوارو علبة التبغ الصغيرة , و حين
وضع لفافة بين شفتيه مال إليه الرجل الغريب مع عود ثقاب :
- دعني أشعلها لك
و بينما هو كذلك إذا انطفأت كل المصابيح , سمعت طقطقة زجاج و أحسست شيئا
لاذعا تحت أنفي كاد يخنقني !
الفصل الثامن عشر
لم أفقد وعيي أكثر من دقيقة, صحوت لأجدني أحرك بقوة بين رجلين يمسكان
بذراعي و يساعدانني على النهوض , و كان في فمي كمامة !
كان المكان حالك السواد لكني ظننت أننا لم نكن خارج الفندق , و كل ما
استطعت أن أسمعه حولي هو صراخ و تساؤل الناس عما أصاب المصابيح
أنزلني خاطفي إلى سلم لولبي عبرنا ممرا في سرداب ثم خرجنا من باب إلى
الهواء مرة أخرى ثم إلى باب زجاجي وراء الفندق , ثم التجأنا إلى أشجار
الصنوبر , و لمحت رجلا آخر معي فعرفت أن بوارو أسير أيضا !
و بهذه الجرأة ربح رقم (( 4 )) اليوم , أظنه استعمل مخدرا سريعا لعله
كلوريد الإيثيل : كسر زجاجة صغيرة تحت أنفينا , ثم غمرة فوضى دفع شركاؤه – و
لعلهم الضيوف الجالسون حولنا – بالكمامتين في فمينا و أسرعوا بنا خارجين
إلى مكان بعيد
لقد دفعنا بسرعة في الغابات , و كنا طيلة الوقت نصعد نحو أعلى الهضبة , ثم
في النهاية خرجنا إلى مكان مكشوف عن جانب الجبل , و رأينا أمامنا تلا غريبا
من الصخور الرائعة و الجلاميد . لا شك أن هذا المكان هو الفيلسن لابايرينث
الذي ذكره هارفي
في الحال كنا ندور في منعرج دخولا و خروجا من تجاويفه . . متاهة نحتها
شيطان شرير !
فجأة توقفنا فقد اعترضتنا صخرة ضخمة, وقف أحد الرجال وبدا كأنه يدفع شيئا
حين تدحرجت الصخرة الكبيرة و كشفت عن نفق صغير له فتحة تؤدي إلى جانب الجبل
. أسرعنا ندخله , كان النفق ضيقا في البداية , لكنه لم يلبث أن اتسع حتى
خرجنا إلى غرفة صخرية مضاءة بالكهرباء , ثم رفعت الكمامتان عن فمينا , و
بإشارة من رقم ((4)) الذي وقف مقابلنا ساخرا فتشوا جيوبنا و أخرجوا كل شيء
في جيوبنا حتى مسدس بوارو الصغير , و قذفوه على الطاولة , و أصابني ألم
مفاجئ : لقد غلبنا , غلبونا و تفوقوا علينا !
قال رقم ((4)) باستهزاء :
- مرحبا بكما في قيادة الأربعة الكبار يا سيد بوارو , ما أحسن لقاءك مرة
ثانية , فهل كانت البعثة من الموت من أجل هذا ؟
لم يجبه بوارو , و لم أجرؤ على النظر إليه فيما أكمل قائلا :
- تعال من هذه الطريق لو سمحت . . إن حضورك سيكون مفاجأة لأصحابي
ثم أشار إلى باب ضيق في الحائط دخلنا منه فإذا نحن في غرفة أخرى في آخرها
طالولة عندها أربعة كراسي , كان الرابع منها خاليا لكنه مكسو برداء
المندرين
على الكرسي الثاني كان يجلس آبي ريلاند يدخن السيجار , مدام أوليفير كانت
على الكرسي الثالث و تتكئ على ظهر الكرسي بعينها المتوجهة ووجهها الخاشع
كالراهبة , جلس رقم (( 4 )) على الكرسي الرابع . . لقد كنا في حضرة الأربعة
الكبار !
لم أشعر من قبل بوجود لي شانغ ين حتى رأيت كرسيه الخالي , إنه بعيد , في
الصين , لكنه سيطر على هذه المنظمة الخبيثة و أدارها
مدام أوليفير صرخت صرخة باهتة حين رأتنا , ريلاند كان يضبط نفسه أكثر , و
رفع حاجبيه الأشيبين و قال على مهل :
- السيد هيركيول بوارو ! إنها مفاجأة , لقد أنجزت عملك بنجاح و خدعتنا ,
ظننا أنك مت و دفنت , لا علينا فقد انتهت اللعبة الآن . .
كان في صوته رنة كأنها رنة فولاذ !
و لم تقل مدام أوليفير شيئا لكن كانت عيناها تشتعلان ,, ما أسوأ ابتسامتها
الباردة ! و قال بوارو بهدوء :
- أيتها المرأة و أيها السيدان , أرجو لكم أمسية طيبة
شيء مفاجئ , صوت لم أكن أتوقع سماعه جعلني أنظر فيه , بدا رابط الجأش , و
لكن مع ذلك لمحت في وجهه شيئا مختلفا . . ثم تحركت الستارة من خلفنا و دخلت
الكونتيسة فيرا روساكوف , و قال رقم ((4)) :
- ها . . صاحبتنا الغالية الثقة , عندنا صديق قديم لك هنا يا سيدتي العزيزة
. . .
صعقت الكونتيسة لمرآنا و صاحت :
- يا لله , هذا هو الرجل الصغير , إنه كالقط : له تسعة أرواح ! رجل صغير ,
لماذا تتورط في هذا ؟
- مدام , أنا مثل نابليون العظيم : أنتمي إلى الكتائب المنظمة . .
و بينما كان يتكلم رأيت في عينيها ارتيابا مفاجئا , و في اللحظة نفسها عرفت
شيئا . . الرجل الذي كان جنبي لم يكن هيركيول بوارو !
لقد كان يشبهه كثيرا , رأسه بيضاوي كرأسه , يمشي باختيال مثله , و كان
ممتلئ الجسم على نحو جميل , لكن الصوت كان مختلفا و العينان سوداوين لا
خضراوين , ثم الشارب ؟ الشارب المشهور . .
تقدمت الكونتيسة إلى الأمام و صوتها يرن بالدهشة :
- لقد خدعتم . . هذا الرجل ليس هيركيول بوارو !
صاح رقم (( 4 )) صيحة شك , لكن الكونتيسة تقدمت من بوارو و نزعت شاربه
بيدها , ثم كانت الحقيقة : لأن شفة هذا الرجل مخدوشة خدشا غير صورة الوجه
تماما , همس رقم ((4)) :
- إنه ليس هيركيول بوارو , فمن يكون إذن ؟
- وصرخت فجأة : أنا أعرف
ثم سكت جامدا خشية أن أكون قد أفسدت كل شيء , لكن صاحبي التفت إلي ليشجعني :
- قلها إن أردت , لقد نجحت الحيلة !
- هذا أشيلي بوارو أخو بوارو التوأم
- قال ريلاند بحيرة : مستحيل !
- أشيلي بهدوء : لقد نجحت خطة بوارو نجاحا رائعا . .
تقدم رقم ((4)) , و كان صوته خشنا متوعدا :
- نجحت ؟ هل تعرف أنك ستموت ؟
- أشيلي بهدوء : أجل أعرف , أنت لم تفهم أن رجلا باع حياته ليشتري النجاح ,
في الحرب رجال يضحون بأرواحهم من أجل بلادهم , و أنا أضحي بحياتي من أجل
العالم
تذكرت حينئذ أنني كنت أرغب التضحية بحياتي على إلحاح بوارو أن أبقى , شعرت
بالرضى , سأله ريلاند بتهكم :
- و كيف تنفع تضحيتك للعالم ؟
- لم تدركوا بعد جوهر خطة بوارو , أولا : كان مخبأكم معروفا منذ بضعة أشهر ؛
لقد كان كل الزوار و موظفي الفندق من رجال التحري , لقد ضرب حصار حول
الجبل لكيلا تستطيعوا الهروب . إن بوارو نفسه يدير العمليات من الخارج , و
لقد لطخت حذائي باليانسون إلى الصخرة هذه الليلة قبل أن أنزل إلى الحديقة
مكان أخي , الكلاب تتعقب الآثار , سوف يقودهم أثر اليانسون إلى الصخرة التي
في فيلسن لابايرينث حيث المدخل , إذن فافعلوا ما تريدون . . . الشبكة
حولكم مشدودة بإحكام و لن تستطيعوا الفرار !
ضحكت مدام أوليفير فجأة :
- إنك مخطئ , أمامنا طريق نهرب منها مثل الشمشون القديم : سندمر أعدائنا ,
ماذا تقولون يا أصحابي ؟
كان ريلاند يحدق إلى أشيلي . . قال بصوت غليظ :
- لعله يكذب
- سيبزغ الفجر في ساعة و سترى حقيقة كلماتي , لا ريب أنهم قد تبعوا آثار
أقدامي حتى باب فيلسن لابايرينث !
و بينما كان يتكلم سمعنا رجع صوت و صراخ رجل متقطع , قفز ريلاند من كرسيه و
خرج , و قامت مدام أوليفير إلى نهاية الغرفة و فتحت بابا لم ألحظه من قبل ,
و لمحت في الداخل مختبرا مجهزا تجهيزا حسنا مثل مختبرها في باريس . . رقم
((4)) قفز كذلك من مقعده و خرج و عاد يحمل مسدس بوارو و أعطاه إلى
الكونتيسة و قال و هو متجهم :
- لا خطر من هروبهما , لكن الأحسن أن يكون معك هذا . .
و خرج مرة أخرى , و جاءت الكونتيسة إلينا و نظرت في رفيقي قليلا ثم ضحكت :
- ما أشد ذكاءك يا سيد بوارو !
- مدام , دعينا نتحدث في العمل , نحن الآن وحدنا لحسن الحظ , ماهو ثمنك ؟
- إنني لم أفهم , أي ثمن ؟
- مدام , أنت تستطيعين أن تساعدينا على الهروب , أنت تعرفين الطريق السري
الذي يؤدي إلى خارج هذا المخبأ , إنني أسألك : ما هو ثمنك ؟
- أكثر مما تدفعه أيها الرجل الصغير , إن كل الأموال الدنيا لن تشتريني !
- مدام , أنا لم أتكلم عن المال , أنا رجل ذكي و أعلم أن لكل إنسان ثمنا
مقابل الحياة و الحرية , أعرض عليك ما ترغبين
- إذن فأنت ساحر
- سميني بما شئت
فجأة تغيرت الكونتيسة و تكلمت بمرارة و عاطفة :
- هل تستطيع أن تنتقم من أعدائي ؟ عل تستطيع أن تعيد لي الشباب و الجمال و
القلب السعيد ؟ هل تستطيع أن تحيي الميت مرة أخرى ؟ قد كان لي طفل فأرجعه
إلي و اذهب حرا . . .
- أوافق يا مدام , طفلك سوف يعود إليك , هذا ضمان هيركيول بوارو نفسه
- عزيزي بوارو , أخشى أنني قد أوقعتك في الفخ , إن وعدك هذا لطف كبير لكنك
لن تنجح و سوف تكون هذه الصفقة من طرف واحد
- مدام , أقسم لك أنني سأعيد طفلك إليك !
- لقد سألتك من قبل يا بوارو : هل تستطيع أن تحيي الميت مرة أخرى ؟
- إذن فإن الطفل . .
- ميت ؟ نعم . .
- و تقدم إليها و أمسك معصمها :
- مدام أنا أقسم مرة أخرى . .
حدقت إليه كأنما سحرها . قال :
- أنت لا تصدقينني . . سأثبت لك صدقي , أحضري محفظتي التي أخذوها مني . .
خرجت من الغرفة و عادت تحمل الدفتر بيدها و مازالت تقبض على زناد المسدس ,
أحسست أن فرصة أشيلي في خداعها كانت ضعيفة , الكونتيسة فيرا روساكوف لم تكن
حمقاء . قال :
- افتحيه يا مدام , و الآن أخرجي الصورة و انظري . .
و أرخجت صورة صغيرة و هي في عجب , و ما إن نظرت إليها حتى صرخت و ترنحت
كأنها توشك أن تسقط , و اندفعت ناحية رفيقي :
- أين ؟ أين ؟ سوف تخبرني . . أين ؟
- تذكري الصفقة يا مدام !
- نعم , سوف أثق بك , هيا بسرعة قبل أن يعودوا
جرته و هي تمسك بيده , و بهدوء خرجا من الغرفة و تبعتهما , و من الغرفة
الخارجية قادتنا إلى النفق الذي دخلناه أول مرة , ثم دارت عن اليمين حيث
تفرغ الممر لكنها قادتنا إلى الأمام بلا تردد أو شك و بسرعة , قال و هي
تلهث :
- يا ليتنا نصل عاجلا و نخرج إلى المنطقة المكشوفة قبل أن يقع الانفجار !
و ما زلنا نركض , و عرفت أن النفق يؤدي مباشرة إلى داخل الجبل و أننا يجب
أن نخرج أخيرا إلى الجانب الآخر منه لنقابل واديا مختلفا . .
تصبب العرق من وجهي و لكني واصلت العدو , ثم رأيت شعاع النهار من بعيد ,
كان يقترب أكثر فأكثر , رأيت شجيرات خضراء نامية شققنا طريقنا من بينها إلى
بقعة مكشوفة ثانية مع ضوء الفجر الباهت الذي جعل كل شيء يبدو ورديا
كان كلام بوارو في حصار الجبل حقيقة , ما إن خرجنا حتى أمسك بنا ثلاثة رجال
لكنهم أطلقونا مرة ثانية مع صرخة ذهول . صرخ رفيقي :
- أسرعا , أسرعا , لا وقت نضيعه . .
و لم يكن مكتوبا له أن ينهي كلامه : ارتجت الأرض و اهتزت تحت أقدامنا و كان
انفجارا مرعبا , و بدا الجبل كله يتفسخ و يتشقق , طرنا عاليا في الهواء . .
و فقدت الوعي
و عندما رجعت إلى وعيي كنت على سرير غريب في غرفة غريبة : شخص ما كان عند
الشباك , التفت إلي و خطا ووقف جنبي
لقد كان أشيلي بوارو . . أو . . لا . . إنه هو !
هذا الصوت الساخر المعروف قد أطفأ شكوكي . .
- نعم يا صديقي , إنه هو . أخي أشيلي ذهب إلى البيت مرة أخرى , إلى أرض
الأساطير , أشيلي كان أنا طيلة الوقت , لا تحسب أن رقم ((4)) هو من يستطيع
أن يتنكر دون غيره , المسحوق في العينين , و التضحية بالشاربين , و أثر جرح
حقيقي من الضربة التي سببت لي ألما قبل شهرين , لكني لم أستطع أن أجازف
ببديل متنكر تحت عين رقم ((4)) التي تشبه عين النسر . ثم اللمسة الأخيرة هي
يقينك أن لي أخا اسمه أشيلي بوارو , و ما أغلى مساعدتك لي ! إن نصف النجاح
الذي حققناه في الانقلاب يرجع فضله إليك . إن عقدة المسألة كلها كانت أن
أجعلهم يظنون أن هيركيول بوارو ما زال حرا طليقا يوجه التعليمات لكن كل شيء
كان صادقا : اليانسون , الحصار . . الخ .
- فلماذا لم ترسل – في الواقع – بديلا عنك ؟
- و أدعك تواجه الخطر فردا ؟ ثم كان في نفسي أمل أن نهرب مع الكونتيسة
- كيف بالله عليك أقنعتها ؟ لقد كانت قصة سخيفة لكي تجعلها تصدق كل ذلك عن
طفل ميت
- الكونتيسة في ذهنها حدة كبيرة يا هيستنغز , لقد فوجئت أولا من شخصيتي
المتنكرة لكنها عرفت الحقيقة بعد ذلك , حين قالت (( ما أشد ذكاءك يا سيد
بوارو )) عرفت أنها خمنت الحقيقة , لذلك كان الوقت مناسبا تماما لألعب
ورقتي الرابحة
- كل ذلك هراء عن إعادة الطفل إلى الحياة ؟
- تماما , لكن الطفل كان معي منذ البداية
- ماذا ؟
- نعم , أنت تعرف شعاري : (( كن مستعدا )) حين وجدت الكونتيسة متورطة مع
الأربعة الكبار عرفت كل ما أستطيع عنها و عن ماضيها فعلمت أنها كان لديها
طفل قيل بأنه قتل , ثم نجحت في اقتفاء أثر الولد و دفعت مالا كثيرا حتى جاز
لي أن أتبنى الطفل , كاد الطفل المسكين يموت لولا أبقيته عند أناس طيبين
في مكان آمن و صورته في بيته الجديد , و هكذا حين آن الأوان كان انقلابي
حاضرا
- ما أروعك يا بوارو , ما أروعك !
- لقد كنت مسرورا بأني فعلت ذلك ؛ لأنني كنت معجبا بالكونتيسة , و كنت سآسف
لو أنها ماتت في الانفجار
- ماذا عن الأربعة الكبار ؟
- لقد تم انتشال كل جثثهم الآن , لم نعرف جثة رقم ((4)) تماما , فقد تمزق
جسده إربا , كنت أتمنى ألا يحدث ذلك , ولكن انظر إلى هذه . .
و أعطاني صحيفة فيها خبر انتحار لي شانغ ين قائد الثورة الحديثة الفاشلة ,
قال :
- خصمي العظيم , كان قدري ألا ألقاه و كلانا حي , حين بلغه نبأ الكارثة هنا
قتل نفسه . إنه عقل عظيم يا صديقي , عقل عظيم !
كم وددت أن أرى وجه رقم ((4)) لكني – ولو مات – أتخيله
- ها نحن يا صديقي واجهنا الأربعة الكبار و هزمناهم , الآن ستعود إلى زوجتك
الساحرة , و أنا سوف . . سوف أعتزل الناس !
إن أعظم قضية في حياتي قد انتهت , أي شيء آخر سيبدو تافها بعدها
سوف أعتزل الناس و ربما أزرع الكوسا و أتزوج و تطمئن نفسي
ضحك كثيرا ثم , ثم قال مرة أخرى :
- أتزوج و تطمئن نفسي . . من يدري ؟
النهاية